سورة مريم - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


قوله: {كهيعص} قرأ أبو جعفر هذه الحروف مقطعة، ووصلها الباقون، وأمال أبو عمرو الهاء وفتح الياء، وعكس ذلك ابن عامر وحمزة، وأمالهما جميعاً الكسائي وأبو بكر وخلف، وقرأهما بين اللفظين أهل المدينة وفتحهما الباقون. وعن خارجة أن الحسن كان يضم كاف، وحكي عن غيره أنه كان يضم (ها).
وقال أبو حاتم: لا يجوز ضمّ الكاف ولا الهاء ولا الياء. قال النحاس: قراءة أهل المدينة من أحسن ما في هذا، والإمالة جائزة في (ها) وفي (يا) وقد اعترض على قراءة الحسن جماعة. وقيل في تأويلها: أنه كان يشمّ الرفع فقط. وأظهر الدال من هجاء (صاد) نافع وأبو جعفر وابن كثير وعاصم ويعقوب، وهو اختيار أبي عبيد وأدغمها الباقون.
وقد قيل في توجيه هذه القراءات: أن التفخيم هو الأصل، والإمالة فرع عنه، فمن قرأ بتفخيم الهاء والياء فقد عمل بالأصل، ومن أمالهما فقد عمل بالفرع، ومن أمال أحدهما وفخم الآخر فقد عمل بالأمرين، وقد تقدم الكلام في هذه الحروف الواقعة في فواتح السورة مستوفى في أوائل سورة البقرة.
ومحل هذه الفاتحة إن جعلت اسماً للسورة على ما عليه الأكثر الرفع على أنها مبتدأ خبرها ما بعدها، قاله الفراء. واعترضه الزجاج فقال: هذا محال لأن {كهيعص} ليس هو مما أنبأنا الله عزّ وجلّ به عن زكريا، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عنه وعما بشر به، وليس {كهيعص} من قصته، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد، فقوله: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبّكَ} خبر لمبتدأ محذوف أي: هذا ذكر رحمة ربك وقيل: هو مبتدأ خبره محذوف أي: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربك. قال الزجاج: {ذكر} مرتفع بالمضمر، والمعنى: هذا الذي نتلوه عليك ذكر رحمة ربك {عَبْدِهِ زكريا} يعني: إجابته إياه حين دعاه وسأله الولد، وانتصاب {عبده} على أنه مفعول للرحمة، قاله الأخفش. وقيل: للذكر. ومعنى ذكر الرحمة: بلوغها وإصابتها، كما يقال: ذكرني معروف فلان أي: بلغني. وقرأ يحيى بن يعمر: {ذكر} بالنصب، وقرأ أبو العالية {عبده} بالرفع على أن المصدر مضاف إلى المفعول، وفاعل الذكر هو عبده، وزكريا على القراءتين عطف بيان له أو بدل منه، وقرأ الكلبي: {ذكر} على صيغة الفعل الماضي مشدّداً ومخففاً على أن الفاعل عبده، وقرأ ابن معمر على الأمر، وتكون الرحمة على هذا عبارة عن زكريا، لأن كل نبيّ رحمة لأمته.
{إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيّاً} العامل في الظرف: رحمة. وقيل: ذكر. وقيل: هو بدل اشتمال من زكريا. واختلف في وجه كون ندائه هذا خفياً؛ فقيل: لأنه أبعد عن الرياء، وقيل: أخفاه، لئلا يلام على طلبه للولد في غير وقته، ولكونه من أمور الدنيا.
وقيل: أخفاه مخافة من قومه. وقيل: كان ذلك منه لكونه قد صار ضعيفاً هرماً لا يقدر على الجهر. {قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ العظم مِنّي} هذه الجملة مفسرة لقوله: {نادى ربه} يقال: وهن يهن وهنا إذا ضعف فهو واهن، وقرئ بالحركات الثلاث. أراد أن عظامه فترت وضعفت قوّته، وذكر العظم، لأنه عمود البدن، وبه قوامه، وهو أصل بنائه، فإذا وهن تداعى وتساقطت قوّته، ولأن أشدّ ما في الإنسان صلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ووحد العظم قصداً إلى الجنس المفيد لشمول الوهن لكل فرد من أفراد العظام {واشتعل الرأس شَيْباً} قرأ أبو عمرو بإدغام السين في الشين، والباقون بعدمه، والاشتعال في الأصل: انتشار شعاع النار، فشبه به انتشار بياض شعر الرأس في سواده بجامع البياض والإنارة، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكناية، بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه، وهذه الاستعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها. قال الزجاج: يقال للشيب إذا كثر جدّاً: قد اشتعل رأس فلان، وأنشد للبيد:
فإن ترى رأسي أمسى واضحا *** سلط الشيب عليه فاشتعل
وانتصاب {شيباً} على التمييز، قاله الزجاج.
وقال الأخفش: انتصابه على المصدر، لأن معنى اشتعل: شاب. قال النحاس: قول الأخفش أولى لأنه مشتق من فعل، والمصدرية أظهر فيما كان كذلك، وكان الأصل اشتعل شيب رأسي، فأسند الاشتعال إلى الرأس لإفادة الشمول {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} أي لم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت من الأوقات، بل كلما دعوتك استجبت لي.
قال العلماء: يستحب للمرء أن يجمع في دعائه بين الخضوع، وذكر نعم الله عليه كما فعل زكريا ها هنا، فإن في قوله: {وَهَنَ العظم مِنّي واشتعل الرأس شَيْباً} غاية الخضوع والتذلل وإظهار الضعف والقصور عن نيل مطالبه، وبلوغ مآربه، وفي قوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيّاً} ذكر ما عوّده الله من الإنعام عليه بإجابة أدعيته، يقال شقي بكذا، أي تعب فيه ولم يحصل مقصوده منه.
{وَإِنّي خِفْتُ الموالى مِن وَرَائِى} قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي بن الحسين وأبوه علي ويحيى بن يعمر {خفت} بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وفاعله {الموالي} أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي، أو انقطعوا بالموت، مأخوذاً من خفت القوم إذا ارتحلوا، وهذه قراءة شاذة بعيدة عن الصواب. وقرأ الباقون {خفت} بكسر الخاء وسكون الفاء على أن فاعله ضمير يعود إلى زكرياء، ومفعوله الموالي، ومن ورائي متعلق بمحذوف لا بخفت، وتقديره: خفت فعل الموالي من بعدي. قرأ الجمهور: {ورائي} بالهمز والمدّ وسكون الياء، وقرأ ابن كثير بالهمز والمدّ وفتح الياء.
وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء، مثل عصاي. والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العمّ ونحوهم، والعرب تسمي هؤلاء موالي، قال الشاعر:
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا *** لا تنشروا بيننا ما كان مدفوناً
قيل: الموالي الناصرون له.
واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده، فقيل: خاف أن يرثوا ماله، وأراد أن يرثه ولده، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولداً.
وقال آخرون: إنهم كانوا مهملين لأمر الدين، فخاف أن يضيع الدين بموته. فطلب ولياً يقوم به بعد موته، وهذا القول أرجح من الأوّل لأن الأنبياء لا يورثون وهم أجلّ من أن يعتنوا بأمور الدنيا، فليس المراد هنا: وراثة المال، بل المراد: وراثة العلم والنبوّة والقيام بأمر الدين.
وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} العاقر: هي التي لا تلد لكبر سنها، والتي لا تلد أيضاً لغير كبر وهي المرادة هنا، ويقال: للرجل الذي لا يلد: عاقر أيضاً، ومنه قول عامر ابن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا ***
قال ابن جرير: وكان اسم امرأته: أشاع بنت فأقود بن ميل، وهي أخت حنة، وحنة هي أمّ مريم.
وقال القتيبي: هي أشاع بنت عمران، فعلى القول يكون يحيى بن زكريا ابن خالة أمّ عيسى، وعلى القول الثاني يكونان ابني خالة كما ورد في الحديث الصحيح. {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} أي أعطني من فضلك ولياً، ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوّز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما.
وقد قيل: إنه كان ابن بضع وتسعين سنة، وقيل: بل أراد بالوليّ الذي طلبه هو الولد، ولا مانع من سؤال من كان مثله لما هو خارق للعادة، فإن الله سبحانه قد يكرم رسله بما يكون كذلك، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم.
{يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ ءالِ يَعْقُوبَ} قرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة وابن محيصن واليزيدي ويحيى بن المبارك بالرفع في الفعلين جميعاً، على أنهما صفتان للوليّ وليسا بجواب للدعاء. وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى ابن وثاب والأعمش والكسائي بالجزم فيهما، على أنهما جواب للدعاء.
ورجح القراءة الأولى أبو عبيد وقال: هي أصوب في المعنى؛ لأنه طلب ولياً هذه صفته فقال: هب لي الذي يكون وارثي.
ورجح ذلك النحاس وقال: لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة، تقول: أطع الله يدخلك الجنة أي إن تطعه يدخلك الجنة، وكيف يخبر الله سبحانه بهذا، أعني كونه أن يهب له ولياً يرثه، وهو أعلم بذلك، والوراثة هنا هي وراثة العلم والنبوّة على ما هو الراجح كما سلف.
وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن يعقوب المذكور هنا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وزعم بعض المفسرين أنه يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان، وبه قال الكلبي ومقاتل، وآل يعقوب هم خاصته الذين يؤول أمرهم إليه للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين، وقد كان فيهم أنبياء وملوك، وقرئ: {يرثني وارث من آل يعقوب} على أنه فاعل يرثني. وقرئ: {وأرث آل يعقوب} أي أنا. وقرئ: {أو يرث آل يعقوب} بلفظ التصغير على أن هذا المصغر فاعل يرثني. وهذه القراءات في غاية الشذوذ لفظاً ومعنى {واجعله رَبّ رَضِيّاً} أي مرضياً في أخلاقه وأفعاله؛ وقيل: راضياً بقضائك وقدرك، وقيل: رجلاً صالحاً ترضى عنه، وقيل: نبياً كما جعلت آباءه أنبياء.
{رَضِيّاً يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ بغلام اسمه يحيى} قال جمهور المفسرين: إن هذا النداء من الله سبحانه، وقيل: إنه من جهة الملائكة، لقوله في آل عمران {فَنَادَتْهُ الملئكة} [آل عمران: 39]، وفي الكلام حذف، أي فاستجاب له دعاءه، فقال: يا زكريا، وقد تقدّم في آل عمران وجه التسمية بيحيى وزكريا. قال الزجاج: سمي يحيى لأنه حيي بالعلم والحكمة التي أوتيها {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} قال أكثر المفسرين: معناه: لم نسمّ أحداً قبله يحيى.
وقال مجاهد وجماعة: معنى {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} أنه لم يجعل له مثلاً ولا نظيراً، فيكون على هذا مأخوذ من المساماة أو السموّ، وردّ هذا بأنه يقتضي تفضيله على إبراهيم وموسى. وقيل: معناه لم تلد عاقر مثله، والأوّل أولى. وفي إخباره سبحانه بأنه لم يسمّ بهذا الاسم قبله أحد فضيلة له من جهتين: الأولى: أن الله سبحانه هو الذي تولى تسميته به، ولم يكلها إلى الأبوين. والجهة الثانية: أن تسميته باسم لم يوضع لغيره يفيد تشريفه وتعظيمه.
{قَالَ رَبّ أنى يَكُونُ لِي غلام} أي كيف أو من أين يكون لي غلام؟ وليس معنى هذا الاستفهام الإنكار، بل التعجب من قدرة الله وبديع صنعه، حيث يخرج ولداً من امرأة عاقر وشيخ كبير، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في آل عمران، {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} يقال: عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر، وشيخ عات إذا صار إلى حال اليبس والجفاف، والأصل عتوا لأنه من ذوات الواو فأبدلوه ياء لكونها أخفّ، ومثل ما في الآية قول الشاعر:
إنما يعذر الوليد ولا يع *** ذر من كان في الزمان عتياً
وقرأ يحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وحفص والأعمش {عتياً} بكسر العين، وقرأ الباقون بضم العين وهما لغتان، ومحل جملة {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا} النصب على الحال من ضمير المتكلم، ومحل جملة {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} النصب أيضاً على الحال، وكلا الجملتين لتأكيد الاستبعاد والتعجب المستفاد من قوله: {أنى يَكُونُ لِي غلام} أي كيف يحصل بيننا ولد الآن، وقد كانت امرأتي عاقراً لم تلد في شبابها وشبابي وهي الآن عجوز، وأنا شيخ هرم؟
ثم أجاب الله سبحانه على هذا السؤال المشعر بالتعجب والاستبعاد بقوله: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ} الكاف في محل رفع، أي الأمر كذلك، والإشارة إلى ما سبق من قول زكريا، ثم ابتدأ بقوله: {قَالَ رَبُّكِ} ويحتمل أن يكون محله النصب على المصدرية، أي: قال قولاً مثل ذلك، والإشارة بذلك إلى مبهم يفسره قوله: {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} وأما على الاحتمال الأوّل فتكون جملة {هُوَ عَلَىَّ هَيّنٌ} مستأنفة مسوقة لإزالة استبعاد زكريا بعد تقريره، أي قال: هو مع بعده عندك، عليّ هين، وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع من المراد.
قال الفراء: أي خلقه عليّ هين {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} هذه الجملة مقرّرة لما قبلها. قال الزجاج: أي فخلق الولد لك كخلقك، والمعنى: أن الله سبحانه خلقه ابتداء وأوجده من العدم المحض، فإيجاد الولد له بطريق التوالد المعتاد أهون من ذلك وأسهل منه، وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه السلام لكونه المخلوق من العدم حقيقة بأن يقول: وقد خلقت أباك آدم من قبل ولم يك شيئاً، للدلالة على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشاء آدم من العدم. قرأ أهل المدينة وأهل مكة والبصرة وعاصم وابن عامر {وقد خلقتك من قبل} وقرأ سائر الكوفيين: {وقد خلقناك من قبل}.
{قَالَ رَبّ اجعل لِّى ءايَةً} أي علامة تدلني على وقوع المسؤول وتحققه وحصول الحبل، والمقصود من هذا السؤال تعريفه وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه. قال ابن الأنباري: وجه ذلك أن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر، فسأل الله آية يستدلّ بها على قرب ما منّ به عليه. وقيل: طلب آية تدله على أن البشرى من الله سبحانه لا من الشيطان، لأن إبليس أوهمه بذلك، كذا قال الضحاك والسدّي وهو بعيد جدّاً {قال ءايتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا} قد تقدّم تفسير هذا في آل عمران مستوفى، وانتصاب {سوياً} على الحال، والمعنى: آيتك أن لا تقدر على الكلام والحال أنك سويّ الخلق ليس بك آفة تمنعك منه، وقد دل بذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران. أن المراد ثلاثة أيام ولياليهنّ.
{فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} وهو مصلاه، واشتقاقه من الحرب، كأنّ ملازمه يحارب الشيطان.
وقيل: من الحرب محركاً، كأن ملازمه يلقى حرباً وتعباً ونصباً {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قيل: معنى {أوحى}: أومأ بدليل قوله في آل عمران {إِلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41]. وقيل: كتب لهم في الأرض. وبالأوّل قال الكلبي والقرظي وقتادة وابن منبه، وبالثاني قال مجاهد.
وقد يطلق الوحي على الكتابة ومنه قول ذي الرّمة:
سوى الأربع الدهم اللواتي كأنها *** بقية وحي في بطون الصحائف
وقال عنترة:
كوحي صحائف من عهد كسرى *** فأهداها لأعجم طمطميّ
و{أن} في قوله: {أَن سَبّحُواْ} مصدرية أو مفسرة، والمعنى: فأوحى إليهم بأن صلوا، أو أي صلوا، وانتصاب {بكرة} و{عشياً} على الظرفية. قال الفراء: العشي يؤنث، ويجوز تذكيره إذا أبهم. قال: وقد يقال العشيّ جمع عشية، قيل: والمراد: صلاة الفجر والعصر. وقيل: المراد بالتسبيح: هو قولهم سبحان الله في الوقتين: أي نزهوا ربكم طرفي النهار.
وقد أخرج الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والضياء في المختارة عن ابن عباس في قوله: {كهيعص} كبير هاد أمين عزيز صادق، وفي لفظ: كاف بدل كبير.
وأخرج عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس، وعثمان بن سعيد الدارمي في التوحيد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس: {كهيعص} قال: كاف من كريم، وهاء من هاد، وياء من حكيم، وعين من عليم، وصاد من صادق.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود وناس: من الصحابة {كهيعص} هو الهجاء المقطع، الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء والعين من العزيز، والصاد من المصوّر.
وأخرج ابن مردويه عن الكلبي أنه سئل عن {كهيعص} فحدّث عن أبي صالح عن أمّ هانئ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كاف هاد عالم صادق».
وأخرج عثمان بن سعيد الدارمي وابن ماجه وابن جرير عن فاطمة ابنة عليّ قالت: كان علي يقول: يا كهيعص اغفر لي.
وأخرج أبو الشيخ في العظمة، وابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في: {كهيعص} قال: الكاف الكافي، والهاء الهادي، والعين العالم، والصاد الصادق.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن السدّي قال: كان ابن عباس يقول في كهيعص وحموياس وأشباه هذا: هو اسم الله الأعظم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به، وهو من أسماء الله.
وكما وقع الخلاف في هذا وأمثاله بين الصحابة وقع بين من بعدهم ولم يصح مرفوعاً في ذلك شيء، ومن روي عنه من الصحابة في ذلك شيء فقد روى عن غيره ما يخالفه، وقد يروى عن الصحابي نفسه التفاسير المتخالفة المتناقضة في هذه الفواتح فلا يقوم شيء من ذلك حجة، بل الحق الوقف، وردّ العلم في مثلها إلى الله سبحانه، وقد قدّمنا تحقيق هذا في فاتحة سورة البقرة.
وأخرج أحمد وأبو يعلى، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «كان زكريا نجاراً».
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: كان آخر أنبياء بني إسرائيل زكريا بن أزر بن مسلم من ذرية يعقوب دعا ربه سرّاً {قَالَ رَبّ إِنّي وَهَنَ العظم مِنّي} إلى قوله: {خِفْتُ الموالي} قال: وهم العصبة {يَرِثُنِي} يرث نبوّتي ونبوّة آل يعقوب، فنادته الملائكة، وهو جبريل: إن الله يبشرك {بغلام اسمه يحيى} فلما سمع النداء جاءه الشيطان فقال: يا زكريا إن الصوت الذي سمعت ليس من الله إنما هو من الشيطان سخر بك، فشك وقال: {أنى يَكُونُ لِي غلام} يقول: من أين يكون وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر، قال الله: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً}.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَإِنّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَائِي} قال: الورثة: وهم عصبة الرجل.
وأخرج الفريابي عنه قال: كان زكريا لا يولد له فسأل ربه فقال: {رب هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِى وَيَرِثُ مِنْ ءَالِ يَعْقُوبَ} قال: يرث مالي ويرث من آل يعقوب النبوّة.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً} قال: مثلاً.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وأبو داود وابن جرير، والحاكم وصححه، وابن مردويه عنه قال: لا أدري كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذا الحرف عتياً أو عسياً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء في قوله: {عِتِيّاً} قال: لبث زماناً في الكبر.
وأخرج أيضاً عن السدّي قال: هرماً.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {أَلاَّ تُكَلّمَ الناس ثلاث لَيَالٍ سَوِيّاً} قال: اعتقل لسانه من غير مرض، وفي لفظ من غير خرس، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً: {فأوحى إِلَيْهِمْ} قال: كتب لهم كتاباً.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله: {أَن سَبّحُواْ} قال: أمرهم بالصلاة {بُكْرَةً وَعَشِيّاً}.


قوله: {يا يحيى} ها هنا حذف، وتقديره: وقال الله للمولود: يا يحيى، أو فولد له مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه، فقلنا له: يا يحيى.
وقال الزجاج: المعنى فوهبنا له وقلنا له: يا يحيى. والمراد بالكتاب: التوراة لأنه المعهود حينئذٍ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن، والمراد بالأخذ: إما الأخذ الحسي أو الأخذ من حيث المعنى، وهو القيام بما فيه كما ينبغي، وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به، والإحجام عن المنهيّ عنه، ثم أكده بقوله: {بقُوَّةَ} أي بجدّ وعزيمة واجتهاد {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} المراد بالحكم: الحكمة، وهي الفهم للكتاب الذي أمر بأخذه وفهم الأحكام الدينية. وقيل: هي العلم وحفظه والعمل به وقيل: النبوّة وقيل: العقل، ولا مانع من أن يكون الحكم صالحاً لحمله على جميع ما ذكر. قيل: كان يحيى عند هذا الخطاب له ابن سنتين، وقيل: ابن ثلاث.
{وَحَنَانًا مّن لَّدُنَّا} معطوف على الحكم. قال جمهور المفسرين: الحنان الرحمة والشفقة والعطف والمحبة، وأصله توقان النفس، مأخوذ من حنين الناقة على ولدها. قال أبو عبيدة: تقول حنانك يا ربّ، وحنانيك يا ربّ، بمعنى واحد، يريد: رحمتك، قال طرفة:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا *** حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
وقال امرؤ القيس:
ويمنحها بنو سلخ بن بكر *** معيزهم حنانك ذا الحنان
قال ابن الأعرابي: الحنان مشدّداً من صفات الله عزّ وجلّ، والحنان مخففاً: العطف والرحمة. والحنان: الرزق والبركة. قال ابن عطية: والحنان في كلام العرب أيضاً ما عظم من الأمور في ذات الله، ومنه قول زيد بن عمرو بن نفيل: والله لئن قتلتم هذا العبد لأتخذن قبره حناناً، يعني: بلالاً، لما مرَّ به وهو يعذب. وقيل: إن القائل لذلك هو ورقة بن نوفل. قال الأزهري: معنى ذلك لأترحمنّ عليه، ولأتعطفنّ عليه لأنه من أهل الجنة، ومثله قول الحطيئة:
تحنن عليّ هداك المليك *** فإن لكل مقام مقالا
ومعنى {مّن لَّدُنَّا} من جنابنا. قيل: ويجوز أن يكون المعنى: أعطيناه رحمة من لدنا كائنة في قلبه يتحنن بها على الناس، ومنهم أبواه وقرابته حتى يخلصهم من الكفر {وزكواة} معطوف على ما قبله، والزكاة التطهير والبركة والتنمية والبرّ، أي جعلناه مباركاً للناس يهديهم إلى الخير؛ وقيل: زكيناه بحسن الثناء عليه كتزكية الشهود وقيل: صدقة تصدقنا به على أبويه قاله ابن قتيبة {وَكَانَ تَقِيّا} أي متجنباً لمعاصي الله مطيعاً له.
وقد روي أنه لم يعمل معصية قط.
{وَبَرّا بوالديه} معطوف على {تقياً}، البرّ هنا بمعنى البارّ، فعل بمعنى فاعل، والمعنى: لطيفاً بهما محسناً إليهما {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} أي لم يكن متكبراً ولا عاصياً لوالديه أو لربه، وهذا وصف له عليه السلام بلين الجانب وخفض الجناح {وسلام عَلَيْهِ} قال ابن جرير وغيره: معناه: أمان عليه من الله.
قال ابن عطية: والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة، فهي أشرف وأنبه من الأمان لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه، وهو أقلّ درجاته، وإنما الشرف في أن يسلم الله عليه، ومعنى {يَوْمَ وُلِدَ} أنه أمن من الشيطان وغيره في ذلك اليوم، أو أن الله حياه في ذلك اليوم، وهكذا معنى {يَوْمَ يَمُوتُ} وهكذا معنى {يَوْمَ يُبعثُ حَياً} قيل: أوحش ما يكون الإنسان في ثلاثة مواطن: يوم ولد لأنه خرج مما كان فيه، ويوم يموت لأنه يرى قوماً لم يكن قد عرفهم وأحكاماً ليس له بها عهد، ويوم يبعث لأنه يرى هول يوم القيامة. فخصّ الله سبحانه يحيى بالكرامة والسلامة في المواطن الثلاثة.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ} قال: بجدّ {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} قال: الفهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: يقول: اعمل بما فيه من فرائض.
وأخرج ابن المنذر عن مالك بن دينار قال: اللب.
وأخرج أبو نعيم والديلمي وابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} قال: «أعطي الفهم والعبادة وهو ابن سبع سنين».
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم عن قتادة: بدله وهو ابن ثلاث سنين.
وأخرج الحاكم في تاريخه من طريق نهشل بن سعد عن الضحاك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الغلمان ليحيى بن زكريا: اذهب بنا نلعب، فقال يحيى: ما للعب خلقنا، اذهبوا نصلي فهو قول الله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً}».
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ القرآن قبل أن يحتلم، فهو ممن أوتي الحكم صبياً» وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس موقوفاً.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَحَنَانًا} قال: لا أدري ما هو إلا أني أظنه يعطف الله على عبده بالرحمة، وقد فسرها جماعة من السلف بالرحمة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وزكواة} قال: بركة، وفي قوله: {وَكَانَ تَقِيّا} قال: طهر فلم يعمل بذنب.


قوله: {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} هذا شروع في ابتداء خلق عيسى، والمراد بالكتاب: هذه السورة، أي اذكر يا محمد للناس في هذه السورة قصة مريم، ويجوز أن يراد بالكتاب: جنس القرآن وهذه السورة منه، ولما كان الذكر لا يتعلق بالأعيان احتيج إلى تقدير مضاف يتعلق به الذكر، وهو قصة مريم، أو خبر مريم {إِذِ انتبذت} العامل في الظرف هو ذلك المضاف المقدّر، ويجوز أن يجعل بدل اشتمال من مريم، لأن الأزمان مشتملة على ما فيها، ويكون المراد بمريم: خبرها، وفي هذا الإبدال دلالة على تفخيم شأن الوقت لوقوع قصتها العجيبة فيه، والنبذ: الطرح والرمي. قال الله سبحانه: {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187]. والمعنى: أنها تنحت وتباعدت.
وقال ابن قتيبة: اعتزلت. وقيل: انفردت، والمعاني متقاربة.
واختلفوا في سبب انتباذها، فقيل: لأجل أن تعبد الله سبحانه وقيل لتطهر من حيضها، و{مّنْ أَهْلِهَا} متعلق ب {انتبذت}، وانتصاب {مَكَاناً شَرْقِياً} على المفعولية للفعل المذكور، أي مكاناً من جانب الشرق، والشرق بسكون الراء: المكان الذي تشرق فيه الشمس، وإنما خص المكان بالشرق لأنهم كانوا يعظمون جهة الشرق لأنها مطلع الأنوار، حكى معناه ابن جرير.
وقد اختلف الناس في نبوّة مريم، فقيل: إنها نبية بمجرّد هذا الإرسال إليها ومخاطبتها للملك وقيل: لم تكن نبية، لأنه إنما كلمها الملك وهو على مثال البشر، وقد تقدّم الكلام في هذا في آل عمران.
{فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً} أي اتخذت من دون أهلها حجاباً يسترها عنهم لئلا يروها حال العبادة، أو حال التطهر من الحيض، والحجاب الستر والحاجز {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} هو جبريل عليه السلام. وقيل: هو روح عيسى، لأن الله سبحانه خلق الأرواح قبل الأجساد، والأوّل أولى لقوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} أي تمثل جبريل لها بشراً مستوي الخلق لم يفقد من نعوت بني آدم شيئاً. قيل: ووجه تمثل الملك لها بشراً أنها لا تطيق أن تنظر إلى الملك وهو على صورته، فلما رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء، فاستعاذت بالله منه و{قَالَتْ إِنّي أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} أي ممن يتقي الله ويخافه. وقيل: إن تقياً اسم رجل صالح، فتعوّذت منه تعجباً. وقيل: إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأوّل أولى. وجواب الشرط محذوف، أي فلا تتعرض لي.
{قَالَ إِنَّمَا أَنَاْ رَسُولُ رَبّكِ} أي قال لها جبريل: إنما أنا رسول ربك الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء {لأَهَبَ لَكِ غلاما زَكِيّاً} جعل الهبة من قبله لكونه سبباً فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع {ليهب} على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز. والزكيّ: الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة. وقيل: المراد بالزكيّ النبيّ {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غلام وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} أي لم يقربني زوج ولا غيره {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} البغيّ هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد: أصله بغوى على فعول، قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة.
وقال ابن جني: إنه فعيل. وزيادة ذكر كونها لم تك بغياً مع كون قولها: لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيهاً لجانبها من الفحشاء وقيل: ما استبعدت من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد هل من قبل زوج تتزوّجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداء؟ وقيل: إن المس عبارة عن النكاح الحلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى بيان وجه قولها: {ولم أك بغياً} وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة، وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده اه. {وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ} أي ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب آية للناس يستدلون بها على كمال القدرة، وهو علة لمعلل محذوف، والتقدير خلقناه لنجعله، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه: {هُوَ علي هَيّنٌ} وجملة {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيّنٌ} مستأنفة، والقائل هو الملك، والكلام فيها كالكلام فيما تقدّم من قول زكريا. وقوله: {وَرَحْمَةً مّنَّا} معطوف على آية أي: ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبيّ رحمة لأمته {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} أي وكان ذلك المذكور أمراً مقدّراً قد قدّره الله سبحانه وجف به القلم. {فَحَمَلَتْهُ} ها هنا كلام مطويّ، والتقدير: فاطمأنت إلى قوله، فدنا منها، فنفخ في جيب درعها، فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته. وقيل: كانت النفخة في ذيلها، وقيل: في فمها. قيل: إن وضعها كان متصلاً بهذا الحمل من غير مضيّ مدة الحمل، ويدلّ على ذلك قوله: {فانتبذت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً} أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد، والقصيّ هو البعيد. قيل: كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل: أبعد مكان في تلك الدار. وقيل: أقصى الوادي. وقيل: إنها حملت به ستة أشهر. وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: سبعة {فَأَجَاءهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة} أي ألجأها واضطرها، ومنه قول زهير:
أجاءته المخافة والرجاء ***
وقرأ شبل: {فاجأها} من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبيّ: {فلما أجاءها} قال في الكشاف: إن {أجاءها} منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقلّ، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضاً ومخاضاً إذا دنا ولادها.
وقرأ الجمهور بفتح الميم. وقرأ ابن كثير بكسرها، والجذع: ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئاً تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدّة وجع الطلق بشيء مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد {قَالَتْ يا مِتُّ قَبْلَ هذا} أي قبل هذا الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظنّ بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان {وَكُنتُ نَسْياً} النسي في كلاب العرب: الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى ولا يذكر ولا يتألم لفقده كالوتد والحبل، ومنه قول الكميت:
أتجعلنا خسراً لكلب قضاعة *** ولسنا بنسي في معدّ ولا دخل
وقال الفراء: النسي: ما تلقيه المرأة من خرق اعتلالها، فتقول مريم: {نَسْياً مَّنسِيّاً} أي حيضة ملقاة، وقد قرئ بفتح النون وكسرها، وهما لغتان مثل الحجر والحجر، والوتر والوتر. وقرأ محمد بن كعب القرظي: {نساء} بالهمز مع كسر النون. وقرأ نوف البكالي بالهمز مع فتح النون. وقرأ بكر بن حبيب {نسياً} بفتح النون وتشديد الياء بدون همز، والمنسي المتروك الذي لا يذكر ولا يخطر ببال أحد من الناس {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} أي جبريل لما سمع قولها، وكان أسفل منها تحت الأكمة. وقيل: تحت النخلة، وقيل المنادي هو عيسى، وقد قرئ بفتح الميم من {من} وكسرها. وقوله: {أَلاَّ تَحْزَنِي} تفسير للنداء، أي لا تحزني أو المعنى بأن لا تحزني على أنها المصدرية {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} قال جمهور المفسرين: السريّ: النهر الصغير، والمعنى: قد جعل ربك تحت قدمك نهراً. قيل: كان نهراً قد انقطع عنه الماء، فأرسل الله فيه الماء لمريم، وأحيا به ذلك الجذع اليابس الذي اعتمدت عليه حتى أورق وأثمر. وقيل: المراد بالسريّ هنا: عيسى، والسريّ: العظيم من الرجال؛ ومنه قولهم فلان سريّ، أي عظيم، ومن قوم سراة أي عظام.
{وَهُزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} الهزّ: التحريك، يقال: هزه فاهتزّ، والباء في بجذع النخلة مزيدة للتوكيد.
وقال الفراء: العرب تقول هزّه وهزّ به، والجذع: هو أسفل الشجرة. قال قطرب: كل خشبة في أصل شجرة فهي جذع، ومعنى إليك: إلى جهتك، وأصل تساقط: تتساقط، فأدغم التاء في السين. وقرأ حمزة والأعمش {تساقط} مخففاً. وقرأ عاصم في رواية حفص والحسن بضم التاء مع التخفيف وكسر القاف. وقرئ: {تتساقط} بإظهار التاءين. وقرئ بالتحتية مع تشديد السين. وقرئ: {تسقط} و{يسقط}.
وقرأ الباقون بإدغام التاء في السين، فمن قرأ بالفوقية جعل الضمير للنخلة، ومن قرأ بالتحتية جعل الضمير للجذع؛ وانتصاب {رُطَباً} على بعض هذه القراءات للتمييز، وعلى البعض الآخر على المفعولية لتساقط. قال المبرد والأخفش: يجوز انتصاب رطباً بهزّي أي: هزّي إليك رطباً {جَنِيّاً} بجذع النخلة، أي على جذعها وضعفه الزمخشري، والجنيّ: المأخوذ طرياً. وقيل: هو ما طلب وصلح للاجتناء، وهو فعيل بمعنى مفعول. قال الفراء: الجنيّ والمجني واحد. وقيل: هو فعيل بمعنى فاعل، أي رطباً طرياً طيباً.
{فَكُلِي واشربي} أي من ذلك الرطب وذلك الماء، أو من الرطب وعصيره، وقدّم الأكل مع أن ذكر النهر مقدّم على الرطب، لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشدّ من احتياجها إلى شرب الماء، ثم قال: {وَقَرّي عَيْناً} قرأ الجمهور بفتح القاف.
وحكى ابن جرير أنه قرئ بكسرها، قال: وهي لغة نجد. والمعنى: طيبي نفساً وارفضي عنك الحزن، وهو مأخوذ من القرّ والقرّة وهما البرد، والمسرور بارد القلب ساكن الجوارح. وقيل: المعنى: وقرّي عيناً برؤية الولد الموهوب لك.
وقال الشيباني: معناه: نامي. قال أبو عمرو: أقرّ الله عينه، أي: أنام عينه وأذهب سهره {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً} أصله: ترأيين: مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت النون للجزم وياء الضمير للساكنين بعد لحوق نون التوكيد، ومثل هذا مع عدم لحوق نون التوكيد قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه *** طرة صبح تحت أذيال الدجى
وقرأ طلحة وأبو جعفر وشيبة {ترين} بسكون الياء وفتح النون مخففة. قال أبو الفتح: وهي شاذة، وجواب الشرط {فَقُولِي إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} أي قولي إن طلب منك الكلام أحد من الناس إني نذرت للرحمن صوماً أي صمتاً وقيل: المراد به: الصوم الشرعي، وهو الإمساك عن المفطرات، والأوّل أولى. وفي قراءة أبيّ: {إني نذرت للرحمن صوماً صمتاً} بالجمع بين اللفظين، وكذا روي عن أنس.
وروي عنه أنه قرأ: {صوماً وصمتاً} بالواو، والذي عليه جمهور المفسرين أن الصوم هنا: الصمت، ويدل عليه {فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً} ومعنى الصوم في اللغة: أوسع من المعنيين. قال أبوعبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم. وقراءة أبيّ تدل على أن المراد بالصوم هنا الصمت، لأنه تفسير للصوم. وقراءة أنس تدل على أن الصوم هنا غير الصمت كما تفيده الواو. ومعنى {فَلَنْ أُكَلّمَ اليوم إِنسِيّاً} أنها لا تكلم أحداً من الإنس بعد إخبارهم بهذا الخبر، بل إنما تكلم الملائكة وتناجي ربها وقيل: إنها لم تخبرهم هنا باللفظ، بل بالإشارة المفيدة للنذر.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} قال: مكاناً أظلها الشمس أن يراها أحد منهم.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: إنما اتخذت النصارى المشرق قبلة، لأن مريم اتخذت من أهلها مكاناً شرقياً، فاتخذوا ميلاده قبلة، وإنما سجدت اليهود على حرف حين نتق فوقهم الجبل، فجعلوا ينحرفون وهم ينظرون إليه، يتخوّفون أن يقع عليهم، فسجدوا سجدة رضيها الله، فاتخذوها سنة.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عساكر من طريق السدّي عن أبي مالك عن ابن عباس. وعن مرّة عن ابن مسعود قالا: خرجت مريم بنت عمران إلى جانب المحراب لحيض أصابها، فلما طهرت إذا هي برجل معها {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً} ففزعت و{قَالَتْ إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} فخرجت وعليها جلبابها، فأخذ بكمها فنفخ في جنب درعها، وكان مشقوقاً من قدّامها، فدخلت النفخة صدرها فحملت، فأتتها أختها امرأة زكرياء ليلة تزورها، فلما فتحت لها الباب التزمتها، فقالت امرأة زكريا: يا مريم أشعرت أني حبلى، قالت مريم: أشعرت أني حبلى، فقالت امرأة زكرياء: فإني وجدت ما في بطني سجد للذي في بطنك، فذلك قوله تعالى: {مُصَدّقاً بِكَلِمَةٍ مّنَ الله} [آل عمران: 39]. فولدت امرأة زكرياء يحيى، ولما بلغ أن تضع مريم خرجت إلى جانب المحراب {فَأَجَاءهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتنى مِتُّ قَبْلَ هذا} الآية {فَنَادَاهَا} جبريل {مِن تَحْتِهَا أَلاَّ تَحْزَنِي} فلما ولدته ذهب الشيطان فأخبر بني إسرائيل أن مريم ولدت، فلما أرادوها على الكلام أشارت إلى عيسى فتكلم فقال: {إِنّي عَبْدُ الله ءَاتَانِىَ الكتاب} الآيات، ولما ولد لم يبق في الأرض صنم إلا خرّ لوجهه.
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في مريم قال: حين حملت وضعت.
وأخرج ابن عساكر عنه قال: وضعت لثمانية أشهر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} قال: جبريل.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء نحوه أيضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وابن عساكر عن أبيّ بن كعب في الآية قال: تمثل لها روح عيسى في صورة بشر فحملته، قال: حملت الذي خاطبها. دخل في فيها.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {مَكَاناً قَصِيّاً} قال: نائياً.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله: {إلى جِذْعِ النخلة} قال: كان جذعاً يابساً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً في قوله: {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} قال: لم أخلق ولم أك شيئاً.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة {وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} قال: حيضة ملقاة.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد نحوه.
وأخرج عبد بن حميد عن نوف البكالي والضحاك مثله.
وأخرج عبد ابن حميد عن عكرمة في قوله: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} قال: الذي ناداها جبريل.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: الذي ناداها من تحتها جبريل، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها.
وقد اختلفت الروايات عن السلف، هل هذا المنادي هو جبريل أو عيسى.
وأخرج عبد بن حميد، عن أبي بكر بن عياش قال: قرأ عاصم بن أبي النجود {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا} بالنصب، قال: وقال عاصم: من قرأ بالنصب فهو عيسى، ومن قرأ بالخفض فهو جبريل.
وأخرج الطبراني وابن مردويه وابن النجار عن ابن عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن السريّ الذي قال الله لمريم {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} نهر أخرجه الله لها لتشرب منه» وفي إسناده أيوب بن نهيك الجبلي قال فيه أبو حاتم الرازي: ضعيف، وقال أبو زرعة: منكر الحديث، وقال أبو فتح الأزدي: متروك الحديث، وقال الطبراني بعد إخراج هذا الحديث: إنه غريب جدّاً.
وأخرج الطبراني في الصغير، وابن مردويه عن البراء بن عازب عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} قال: «النهر».
وأخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، وصححه والحاكم، وابن مردويه عن البراء قال في الآية: هو الجدول، وهو النهر الصغير، فظهر بهذا أن الموقوف أصح.
وقد روي عن جماعة من التابعين أن السريّ هو عيسى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {رُطَباً جَنِيّاً} قال: طرياً.
وأخرج ابن المنذر وابن مردويه في قوله: {إِنّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً} قال: صمتاً.
وأخرج عبد بن حميد وابن الأنباري عنه أنه قرأ: {صوماً صمتاً}.

1 | 2 | 3 | 4